من أين يأتي النصـر..؟

من أين يأتي النصـر..؟

النصر


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


إن الأممَ كالأفراد، تصح وتمرض، وتقوى وتضعف، وتنتصر وتُهزَم، وفق قوانين وسنن إلهية، لا تحابي أحدًا، ولا تتخلَّف ولا تتبدَّل على مرِّ العصور ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف: من الآية 49)، وقد أمرنا الله تعالى أن نتدبر أمورَنا في حال النصر والهزيمة؛ فإذا انتصرنا شكرنا وعرفنا غاية النصر وتبعاته وأماناته، وإن هُزمنا حاسبْنا أنفسَنا، وبحثنا عن أخطائنا، واستغفرنا لذنوبنا، وصحَّحنا مسارنا كي لا نضعف أو نهون.. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ (آل عمران 137/141) والبحث عن أسباب النصر وعوامل الهزيمة والعمل بمقتضاها من الأمور الشرعية والواجبة في ديننا فالله تعالى يقول ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(لأنفال: من الآية60) وقال تعالى ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165)

والإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا أقوياء في جميع المجالات وفي جميع جوانب الحياة المختلفة والمتعددة … قوة في الإيمان والثقة والتوكل على الله وقوة في العتاد والسلاح والمال وقوةٌ في التخطيط والتدبير وقوة في الوحدة والألفة والأخوة وقوة في الأخلاق والسلوك وتلك هي قواعد النصر وأسبابه قال تعالى ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55) .. فلن يأتي النصر إلاَّ بعد استنفاد أسباب الأرض من الاستعداد والتجهيز، والإرادة والإصرار فإذا بذل الناس ما في وسعهم من الأسباب المادية وتوكلوا على الله فإن النصر يأتي حينئذٍ من طرق متعدده وبأشكال مختلفه ومن أبواب لم تكن بالحسبان ومن مواقف وأحداث لم تكن على البال فالذي يسير الكون هو الله والذي بيده الخلق والتدبير هو الله ، ولذلك فإن الناس عند حلول المصائب والفتن وتسلط العدو وتجبر الظلمه من هول هذا الظلم وشدة الإبتلاء تطيش عقولهم فلم يعودوا يفكروا بالخلاص والنصر إلا عن طريق القوة المادية التي تكون أقوى وأعتى من هذا الظلم ومن أتباعه وحين لا يجدون هذه القوة سواء كانت قوة المال أو العدد والعدة أو القبيلة أو الوجاهات وأكابر القوم فقد يصلوا إلى لحظة يأس وإحباط وانقطاع للأمل وبالتالي ترك الإنتصار للدين والقيم العظيمة ، ولكن المسلم الحق هو من يبذل الأسباب ويحسن التوكل على الله ويحسن الظن به ويعلم علم اليقين بأن الله سيجعل له من كل هم فرجاً ومن كل ضيقٍ وخرجاً بأي وسيلة أو طريقة متى ما أذن الله بذلك وما عليه إلا أن يبذل قصارى جهده ولن يضيع الله عمله ولن يخيب رجاءه ..

إنه عندما يرى الله سبحانه وتعالى عباده وقد بذلوا جهدهم وعملوا بالأسباب المتوفرة والمتاحة لكنهم لم يصلوا إلى تلك القوة التي تؤهلهم للنصر ومواجهة الأعداء والظلمة والطغاة فإن الله سبحانه وتعالى عند ذلك لن يترك عباده دون نصر وتمكين ولكن ليس بالقوة المادية وحسب بل بسلاح آخر هو أعظم وأقوى الأسلحة إنه سلاح التوكل على الله والثقة به واللجوء إليه … شعارهم ( وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (ابراهيم:12) .. ونصر الله وتمكينه لعبادة حين يأذن به قد يتحقق في أي وقت وبأبسط الأسباب وأضعف الوسائل والتاريخ يشهد والواقع وكذلك النص الشرعي يشهد بذلك …

هذا جالوت الذي كان يبطش ويظلم ويقتل ولديه جيوش لا تعد ولا تحصى كانت نهايته على يد فئة قليلة مؤمنة يقودهم رجل اختاره الله واصطفاه وهو طالوت والذي كان من جنده داود عليه السلام وكان في ذلك الوقت راعٍ للغنم فأجرى الله النصر على أيديهم قال تعالى ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ )(البقرة:251) فمن كان يتصور أن يأتي النصر والتمكين من هذه الطريق وبهذه الكيفية ومن هذه الفئة والثلة المؤمنة وصدق الله إذ يقول على لسان أهل الإيمان ( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249)..

لقد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدا، كان يقول صلى الله عليه وسلم في كل موسم: “من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي”، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك … سدت كل الأبواب في وجهه فمن أين يأتي النصر ؟

لقد جاء النصر بإذن الله من ستة نفر من الأوس والخزرج التقى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ورحبوا به في مدينتهم وكان هذا اللقاء بداية لإنطلاق الدعوة وبناء الدول المسلمة وإنها لسنة الله في عباده قال تعالى ( “وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ”) (الصافات 171- 173) ..
أن النَّصر الذي ساقه الله للمسلمين في حطين كان فضلاً وعطيَّة من الله تعالى، ليس لعمل الناس فيها إلاَّ الدَّخل المحدود بإذنه، بالتجهيز والاستعداد، والأخذ بالأسباب، والأسباب لا تبلغ نتائجها إلاَّ بِقَدَر الله وفِي حمايته ورعايته.
لقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب: يا رسول الله، إنَّ قريشًا جاءت ومعها فلول العرب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أوَتَحزَّبوا؟” قيل: نعم. قال: “إذًا أبشِروا بِنَصر الله”. وكأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يبيِّن لنا القانون الإلهيَّ أنَّه إذا تحزَّب أعداء الله ضدَّ دين الله والمسلمين، واتَّخَذ المسلمون من الأسباب ما يُواجهون به هذا التحزُّبَ، أكرَمَهم الله بالنَّصر المبين، ودَحْر عدو الإسلام والمسلمين وهذا مِصْداق قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17] والنصر يأتي بالإخلاص والصدق مع الله ذلك أن الإخلاص سرٌ عظيمٌ بين العبد وربه لا يطلع عليه نبيٌ مرسل فيعرفه ولا ملَكٌ مقربٌ فيكتبه جعله الله سبيلاً للنجاة وطريقاً للفلاح وسبباً للنصر والتأييد وحرزاً من كيد الشيطان وشرطاً لقبول الأعمال أمر الله به عبادة فقال تعالى ( هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (غافر:65) وقال تعالى ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5)

لما حاصر المسلمون حصناً في إحدى غزواتهم فاستعصى عليهم، وكثر الأذى فيهم بسبب رمي النصارى لهم، حتى قال مسلمة بن عبد الملك: من يدخل النقب -وهو فتحة ضيقة تحت الحصن تجري فيه المياة فإن كتبت له الشهادة فاز بالجنة، وإن كتبت له النجاة ذهب لباب الحصن ففتحه؟ فخرج رجل ملثم قال: أنا من سيدخل النقب، فدخل وكبر وقاتل وفتح باب الحصن وهجم المسلمون بعد ذلك على الحصن وانتصر المسلمون على يد ذلك الرجل الذي لم يعرف، فأراد مسلمة أن يعرفه ليكافئه، فنادى في جيش المسلمين بعد المعركة أين صاحب النقب؟ فلم يجبه أحد، فعاد الكرة فلم يجبه أحد، فقال في النهاية: إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي، فعزمت عليه بما لي عليه من الحق -أي: الطاعة في الإمرة، فجاء رجل ذات ليلة إلى حاجب مسلمة ، فقال: استأذن لي على الأمير، قال: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فلما صار بين يدي مسلمة قال: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثاً: ألا تبعثوا أحد وراءه، وألا تسألوه عن اسمه، وألا تأمروا له بشيء، قال مسلمة: فذلك له، فقال الرجل باستحياء: أنا صاحب النقب أيها القائد ، ثم انطلق مسرعاً فلم يدر من هو، فكان – مسلمة- لا يصلي بعدها صلاة إلا دعا فيها اللهم احشرني مع صاحب النقب يوم القيامة ..

والنصر للأمة قد يأتي عن طريق الضعفاء والفقراء والمحتاجين أيضاً فليست القضية قضية أموال ووجاهات ومناظر ومناصب خاصة إذا لم تكن في سبيل الله وحسب بل هناك سلاح الإخلاص والدعاء و لا يجيده إلا قليل من الناس عن سعد رضي الله عليه تعالى عنه قال:قال صلى الله عليه وسلم: “إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها،بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم” (صحيح الجامع 2388)

يا لعظمة هذا الدين …إن إخلاص الفقراء والضعفاء وصلاتهم ودعائهم سبب لنصر الأمة وتمكينها في الأرض وهذا حتى يدرك كل فرد من أفراد هذه الأمة أن له دور في هذه الحياة وعن طريقة يأتي النصر مهما كانت قدراته ومستواه الإجتماعي …

لما حاصر قتيبة بن مسلم كابل كان في جيشه العالم العابد محمد بن واسع ، فأرسل يبحث عنه ، فلقيه بجفن دامع ، وكف ضارع ، يشير بسبابته إلى السماء ، ويقول : يا سميع الدعاء ، عظم فيك الرجاء ، اللهم ثبت أقدامنا ، وسدد سهامنا وارفع أعلامنا ، فلما أخبروا قتيبة بما شاهدوا ، وأطلعوه على ما وجدوا قال قتيبة : والله لإصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف شاب طرير ، ومن مائة ألف سيف شهير . ثم بدأ القتال ، فنصرهم ذو الجلال ، وانهزم الكفار ، وولوّا الأدبار …
فإذا أحسن المسلم صلته بالله وبذل المستطاع من الأسباب وتوكل عليه سبحانه وتعالى وصبر على الإبتلاء تعبداً وطمعاً في ثوابه فإنه سبحانه وتعالى قد يهيئ أسباب لا تخطر على بال الإنسان ولا يصل إليها تفكيره يكون فيها النصر والفرج والتمكين وتبدل الأحوال إلى أفضل حال فليحسن المسلم ظنه بربه ..


سهرت أعينٌ ونامت عيـون … في شئون تكون أو لا تكونُ
فاطرح الهـم مـا استطعت … فحمـلانك الهمـوم جنـونُ
إن ربا كفاك ما كان بالأمس … سيكفيـك فـي غدٍ ما يكونُ

تعليق واحد

اترك رد